كنيسة وطن


محمد سلام

من منكم شاهد فارسا يترجّل عن سرج … ويبقى على صهوة جواد؟

هو هكذا. سرجه كرسي بطريركي يسلمه لفارس تختاره الكنيسة. وجواده وطن أوجدته … الكنيسة.

وطن أسس له غبطة البطريرك الياس الحويك في العقد الثاني من القرن الماضي. حينها فاوض بصفته بطريرك لبنان، وأنجز، بصفته بطريرك لبنان، وثيقة الوعد باستقلال لبنان الكبير.

وطن حققه غبطة البطريرك أنطوان عريضة يوم عيد الميلاد من العام 1941 عندما ترأس في بكركي المؤتمر العام لممثلي مختلف الشرائح اللبنانية، معلنا من ضمن مل ذكره من مبادئ وطنية أن “هذا الصرح ليس وقفا على الطائفة المارونية فحسب، بل هو بيت جميع اللبنانيين، وفق المصلحة اللبنانية، لا فرق فيها بين طائفة وأخرى … نريد استقلالا ناجزا يطابق رغبات الشعب اللبناني … نريد استقلالا مبنيا على التآلف والتضامن والغيرة في سبيل المصلحة الوطنية…”

واتخذ مؤتمر بكركي الشهير يوم عيد الميلاد في العام 1941 جملة مقررات إستقلالية بالتزكية، من بينها، “إعلان الثقة بغبطة البطريرك الماروني لتحقيق أهداف المؤتمر بمؤازرة شخصيات تمثل الطوائف والمناطق اللبنانية”.

فكان الاستقلال، وولد وطن وعد به الحويك وحققه عريضة.

هو وطن ثبّته غبطة البطريرك بولس المعوشي عندما تعرض للاهتزاز في الحرب الأهلية الأولى العام 1958، وانتقل ببكركي من “بيت لكل اللبنانيين” إلى مقام “المرجعية الوطنية لكل اللبنانيين”.

هو وطن، تلقّفه غبطة البطيرك نصر الله صفير “كرة نار” في نيسان من العام 1986 فحملها بين يديه … وما زال.

بعد ستة أشهر من توليه الكرسي البطريركي، قرع البطريرك صفير أجراس بكركي حزنا على شهيد اللبنانيين المسلمين الشيخ الدكتور صبحي الصالح، رفيقه في الوطن، ورفيقه، حتى بعد الشهادة، في الدعوة إلى العدالة.

كتب الشيخ الصالح: العدوان على حياة فرد واحد في نظر الإسلام عدوان على كل إنسان حي، وكفّ الجاني بالقصاص عن قتل حياة واحدة، هو في الواقع كفّه عن إزهاق الحياة كلها في أشمل معاني الحياة، وأوسعها مدلولاً، وأكثرها تفصيلاً، فما القصاص إلا حياة لأنه الحياة، وفي سبيل الحياة”.

كرة النار الوطنية فجّرت بين يدي البطريرك صفير في العام 1989 يوم اغتيل المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد، ففتحت بكركي صالوناتها لتقبّل التعازي بشريك المسيرة الذي كان يقول: “الحرب علي وعلى البطريرك صفير”.

نجل المفتي الشهيد، سعد الدين خالد، قال لمجلة الشراع ما حرفيته: “كان يقول بأن الحرب عليه وعلى البطريرك صفير. وكان يقول لنا إن هناك محاولات لاغتياله ولاغتيال البطريرك صفير. ولماذا تقصف بكركي ودار الفتوى في اليوم نفسه … من يقصفها ويقصف دار الفتوى. هذا يعني بأن المصدر واحد”.

ذهب المفتي، وأُركعت دار الفتوى، وبقيت بكركي بعهدة البطيرك صفير “مرجعا وطنيا لكل اللبنانيين”.

احتضن غبطته اتفاق الطائف … وبقيت كرة النار بين يديه يسعى بهما لدرء الحريق عن كل اللبنانيين.

وبقيت كرة النار بين يديه، فأطلق صرخة الاستقلال الثاني بنداء المطارنة الأول في أيلول العام 2000 متصديا لبدعة تحرير مزارع شبعا التي لا يعلم مطلقها بوجود قرية النخيلة المارونية في المنطقة المحتلة سوريا قبل أن تكون محتلة إسرائيلياإسرائيليا.

ثم احتضن غبطته مسيرة الاستقلال الثاني بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري في العام 2005. وبقيت بكركي مرجعا وطنيا لكل اللبنانيين، وبقي للوطن دستور لأن كنيسته مرجع وطني، ولأن راعيها فارس وطني.

وقرر الفارس، بتواضع لا يتقنه إلا فارس، أن يترجل عن السرج فإذا به يبقى على صهوة الجواد.

الجواد هو الوطن، هو نحن كل أبناء الوطن، الذين ما شعرنا يوما يا غبطة بطريركنا جميعا ألا أنك فارسنا. تعوّدنا حنانك الصارم على هدوء. تعوّدنا نظراتك ترعى لبنان من وادي خالد إلى العرقوب (عندقت وإبل السقي والنخيلة ضمنا). تعوّدنا ترحيبك بنا في صرحنا، في بكركي، في الديمان، أدمنّا سؤالك “مشواركن بعيد. إن شا الله ما تعبتوا على الطريق”.

سنبقى ننتظر بيان المطارنة كل شهر، سنبقى نتطلع إلى الفارس المتواضع، نستلهم منه العزيمة، نتعلم منه شجاعة تداول السلطة، نراقب عصاه تدق في المسالك الوعرة، ترقص قلوبنا لابتسامته الهازئة، ونسأل الله، كل على دينه، التوفيق لكنيسة أوجدت وطنا كي تختار من بين كبارها من لا نشك في أنه سيكون كبيرا.

سنبقى معك سيّدنا، على درب الوطن، نتطلع باحترام وإعجاب إلى آلية اختيار من سيكمل مسيرة كنيسة الوطن، فيما يتظاهر مشايخ الأزهر الشريف مطالبين بحق انتخاب شيخهم، وهو ما فعلته دائما كنيسة الوطن.

لك منا كل الاحترام، يا من ترجّل عن سرج وبقي على صهوة الجواد.

(لبناني مسلم سني)